مغامرة نور وتيمور: لغز إعلان الدقي


الفصل الأول: دعوة لـ "حدث جلل"

كان صباحاً عادياً بشكل مخادع في مكتب نور عبد الحميد الكائن في إحدى البنايات الهادئة بحي الدقي. أشعة الشمس تتسلل بخجل عبر الستائر المعدنية، مضيئةً أكوام الملفات التي تشير إلى نشاط محموم أكثر من كونه فوضى. رائحة القهوة الباردة، الرفيق الدائم لليالي العمل الطويلة، كانت تمتزج برائحة الورق القديم.

نور، بوجهها الجاد الذي تخفي خلفه عقل متقد وعاطفة قوية، كانت تدقق في مستندات قضية احتيال معقدة، لكن جزءًا من تفكيرها كان مشغولاً بمكالمة والدتها الليلة السابقة التي أعادت إلى ذهنها المقارنات الدائمة بينها وبين شقيقها "الناجح".

حموكشة، مساعدها الذي يعوض افتقاره النسبي للبراعة الفائقة بولاء مطلق وقلب طيب (وروح فكاهية غالباً غير مقصودة)، كان يخوض معركته اليومية مع طابعة المكتب العنيدة. "يا أستاذة نور! الطابعة دي عاملة زي موظفين الشهر العقاري، مش عايزة تتحرك إلا بوسايط! يمكن عايزة بقشيش حبر؟"

نور ردت بابتسامة باهتة دون أن ترفع عينيها عن الأوراق: "معلش يا حموكشة، سيبها دلوقتي وأبقى شوف لها كهربائي عدل، أنت بتجيب لها الضغط."

في ركنه المفضل، فوق كنبة جلدية قديمة أكل عليها الدهر وشرب، استلقى تيمور. قط شيرازي أبيض ناصع، بعيون زرقاء صافية تلمع بذكاء يتجاوز حدود فصيلته. لم يكن مجرد قط، بل كان مراقباً صامتاً، فيلسوفاً له نظرته الخاصة في عبثية الوجود البشري. كان يتظاهر بقراءة نسخة إنجليزية من "هكذا تكلم زرادشت"، وإن كان اهتمامه الحقيقي منصباً على الدراما اليومية لأهل المكتب.

"يا لسخف القدر الذي يجعل كائنات عاقلة تستسلم أمام غضب آلة!" تمتم تيمور بصوت داخلي، موجهاً حديثه (غير المسموع) لـحموكشة. "لو أن الطابعة تمتلك وعياً فلسفياً، لربما تعاونت."

في تلك اللحظة، دخل حموكشة وفي يده جريدة "أخبار المدينة" التي يشتريها كل صباح ليتابع صفحة "ما قل ودل" وأخبار فريق الأهلي. "بصي يا أستاذة نور الإعلان العجيب ده!" قال وهو يشير إلى مربع صغير في صفحة الإعلانات المبوبة. "جايبينه في إعلانات شقق الإيجار! إعلان غريب أوي!"

مدت نور يدها لتتناول الجريدة بفضول، وانضم إليهما تيمور الذي قفز بخفة من الكنبة، ففضوله الفكري لا يقتصر على الكتب فقط. قرأت نور بصوت عالٍ، وارتسمت علامات الدهشة على وجهها تدريجياً:

"يُعلَن عن وقوع حدثٍ جَلَل في فيلا المرحوم السكري باشا، الكائنة بـ 15 شارع مصدق بالدقي، وذلك في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الخميس المقبل. الدعوة موجهة للأصدقاء والمعارف... وأصحاب الفضول الشديد."

رفع حموكشة حاجبيه. "حدث جلل؟ زي إيه يعني؟ فرح مفاجئ؟ افتتاح محل كشري جديد؟ ولا ممكن تكون كاميرا خفية من بتوع رمضان اللي بيعملوها بدري دي؟"

"الأمر يتجاوز الدعابة يا حموكشة،" علّق تيمور بجدية مفاجئة لم تسمعها نور بالطبع. "هذا الإعلان يحمل نبرة مشؤومة ومدروسة. استخدام كلمة 'جَلَل' يوحي بما هو أبعد من المزاح."

نور أعادت قراءة الإعلان بصمت. "تهاني هانم السكري؟ أرملة فهمي باشا السكري؟ سيدة محترمة ومنعزلة تقريباً، معروفة بهدوئها وثروتها القديمة.. ليه تعمل إعلان زي ده؟ أو مين ممكن يعمله باسمها؟"

"ممكن حد بيعمل فيها مقلب بايخ يا أستاذة،" قال حموكشة. "أو يمكن تكون دعاية لحاجة غريبة؟ تلاقيها عاملة بيع تصفية للعفش بتاع الباشا!"

"لا يا حموكشة،" قاطعته نور بحسم، وعيناها تضيقان بالتركيز. "صيغة الإعلان مقلقة. كلمة 'جَلَل'.. و'فضول شديد'.. والتحديد الدقيق للمكان والزمان. هذا ليس مقلباً عادياً. هذا يشبه... تمهيداً لشيء ما."

"بالضبط،" أكد تيمور. "إنه يثير التوقع ويضمن الحضور الكثيف... جمهور مثالي لأي 'حدث'."

"يبقى لازم نروح يا أستاذة!" قال حموكشة بحماس مفاجئ. "لو طلع مقلب هنضحك، ولو طلعت عزومة ممكن ناكل جاتوه!"

"هنروح يا حموكشة،" قالت نور بجدية. "لكن مش عشان الجاتوه. هنروح عشان نعرف مين اللي ورا الإعلان ده... وإيه هو الحدث الجَلَل اللي بيحضروا له." نظرت نحو تيمور الذي قابل نظرتها بهزة رأس خفيفة توحي بالفهم. المغامرة القادمة بدأت لتوها.

الفصل الثاني: فريق الظل يدخل الصورة

على الجانب الآخر من المدينة، في مكتب شديد الفخامة والأناقة بإحدى أبراج الزمالك المطلة على النيل، كانت الأجواء مختلفة تماماً. هنا لا رائحة للقهوة الباردة أو الملفات المكدسة، بل رائحة عطر فرنسي باهظ وعبير بخور خفيف يمتزج بصوت نقرات سريعة ومنتظمة على لوحة مفاتيح لابتوب حديث.

مريومة الشناوي، المحامية والمحققة الخاصة التي تعتبر نفسها النجمة الصاعدة في سماء التحقيقات والند الحقيقي لـنور عبد الحميد، كانت تتصفح "أخبار المدينة" بملل مصطنع على تابلت فاخر. ترتدي طقماً أنيقاً وحذاءً من ماركة عالمية، وتضع نظارة شمسية فوق رأسها رغم وجودها داخل المكتب. مريومة تمتلك الذكاء والمكر، لكن طموحها الشديد وغيرتها القاتلة من نجاح نور (التي كانت زميلتها في الدراسة وتفوقت عليها) هما محركها الأساسي.

"سخافات! البلد كلها أخبارها بايخة،" قالت بنبرة متعالية وهي تقلب الصفحات الرقمية بسرعة. "إيه ده؟ إعلان عن 'حدث جلل' عند تهاني السكري؟ في الدقي؟... تافه." ألقت التابلت بإهمال على سطح مكتبها المصنوع من خشب الأبانوس.

من زاوية المكتب، حيث يجلس بهدوء وثبات يشبه تمثالاً، رفع العمروسي عينيه الباردتين عن شاشة اللابتوب. العمروسي هو النقيض المطلق لـحموكشة؛ عبقري حقيقي في التكنولوجيا وتحليل البيانات، استراتيجي من الطراز الأول، لكنه يفتقر تماماً إلى أي بوصلة أخلاقية. هو الذراع الأيمن (والعقل المدبر غالباً) لـمريومة، ينفذ خططها المعقدة ويضيف إليها لمساته الخاصة من المكر التقني. "قرأتُه يا أستاذة مريومة،" قال بصوته الهادئ والمحسوب. "التحليل الأولي للسياق يشير إلى عدة احتمالات: دعابة منظمة، عملية نصب مبتكرة، أو... تمهيد فعلي لحدث يستحق الاهتمام، ربما لأغراض التغطية أو الابتزاز."

"ابتزاز؟ تهاني السكري؟ ست أرملة قاعدة في حالها مع شوية معارف شكلهم كسر زيها،" قالت مريومة بسخرية، لكن لمعة اهتمام بدأت تظهر في عينيها. "بس الفيلا والميراث القديم... مين عارف؟ ولو الموضوع ده وصلت له نور بتاعة الدقي دي... ممكن تطلع منه بسبق صحفي أو قضية تعمل لها اسم أكتر." مجرد ذكر اسم نور أثار حفيظتها.

العمروسي عاد للنقر على لوحة المفاتيح. "المعلومات الأولية عن تهاني السكري محدودة. أرملة، ثروة موروثة، لا أبناء مباشرين. هناك حديث عن وصية معقدة للزوج الراحل قد تعود بالنفع على ورثة آخرين في حالة وفاتها... الأمر قد يكون مثيراً للاهتمام بالفعل."

في تلك اللحظة، تحرك ظل رشيق وهادئ من تحت المكتب، كاشفاً عن قط أسود بلون الفحم، بعيون صفراء حادة. إنه مسعد، قط مريومة (أو بالأحرى، أداة العمروسي الخفية). مسعد ماكر مثل صاحبته، رشيق ومتسلل كأفضل الجواسيس، ويستمتع بإثارة الفوضى والمساعدة في تنفيذ الخطط الملتوية.

"جهز نفسك يا عمروسي،" قالت مريومة وقد اتخذت قرارها. "احجز لنا مكان قريب من الفيلا دي يوم الخميس. هنتفرج على 'الحدث الجَلَل' ده عن قرب. ولو فيه فرصة نطلع بفايدة، أو على الأقل نفسد على ست نور يومها، مش هنفوتها."

العمروسي أومأ برأسه ببرود. "الخطة قيد التنفيذ."

قفز مسعد بهدوء إلى حافة النافذة، ونظر إلى الخارج بعينيه الصفراوين، وكأنه يستشعر وجود غريم أبيض ناصع في مكان ما بالمدينة... "تيمور... سنرى من الأذكى هذه المرة." المعركة القادمة لن تكون بين البشر فقط.

وفي مكتب نور، بدأ الإعداد للمهمة. "تفتكر نلبس إيه يا أستاذة؟" سأل حموكشة بجدية. "لبس سبور ولا رسمي؟ وهما هيجيبوا أكل إيه؟ لازم نعمل حسابنا."

نور تنهدت: "ركز يا حموكشة. الموضوع مش عزومة. ده ممكن يكون خطر." نظرت إلى تيمور الذي كان قد عاد إلى كنبه وبدأ بلعق فروه الأبيض بتركيز، وكأنه يستعد هو الآخر لمواجهة ما هو قادم.

مساء الخميس يقترب، وفريقان للتحقيق يستعدان، كلٌ بدوافعه وأساليبه، للذهاب إلى فيلا السكري، حيث ينتظرهم المجهول في تمام الساعة الثامنة.

الفصل الثالث: تجمع الفضوليين

كانت ليلة الخميس دافئة ورطبة، من ليالي القاهرة التي تحتفظ بحرارة النهار حتى بعد غروب الشمس. أضواء الشارع الخافتة ترسم ظلالاً طويلة لأشجار الكافور والبوانسيانا العتيقة التي تحف شارع مصدق بالدقي. كانت الفيلا رقم 15 تبدو غارقة في هدوء مهيب؛ بناؤها القديم ذو الطراز الأوروبي يوحي بزمن مضى، وسورها الحديدي المشغول وأعمدة شرفتها الرخامية تحكي قصة ثراء قديم ربما طاله بعض الإهمال.

لكن خلف هذا الهدوء الظاهري، كانت الفيلا تعج بحركة غير معتادة. السيارات الفارهة بدأت تتوافد بتردد، يترجل منها رجال ونساء يتلفتون حولهم بفضول، كأنهم غير متأكدين مما إذا كانوا مدعوين لحفل أم لموقع جريمة وشيكة. لم يكن هناك استقبال رسمي، فقط باب الفيلا الخشبي الثقيل مفتوحٌ على مصراعيه، تضيء منه ثريا كريستال ضخمة في البهو الرئيسي.

وصل فريق نور بسيارة حموكشة القديمة التي أصدرت صوتاً احتجاجياً عالياً عند توقفها، مما لفت أنظار بعض الوافدين الأكثر أناقة. "بالراحة يا حموكشة، خضيت الناس،" همست نور وهي ترتب هندامها. ارتدت زياً عملياً أنيقاً، بينما حموكشة كان في أفضل بذلة لديه (التي بدت لامعة بعض الشيء). تيمور استقر في حقيبة نور الواسعة، فتح طرفها بما يكفي لعينيه الزرقاوين أن ترصدا كل شيء.

بالداخل، كان الصالون الرئيسي الفسيح يعج بالضيوف، أغلبهم من كبار السن الذين تبدو عليهم علامات الثراء القديم والفضول الحالي. الثريا الكريستالية تلقي بضوء قوي على الأثاث الكلاسيكي الثقيل ولوحات الزيت الداكنة التي تزين الجدران. همسات وتكهنات تملأ الهواء، ممزوجة برائحة خفيفة من النفتالين المنبعث من سجاد قديم.

"تجمع غريب الأطوار،" فكر بسخرية. "بشر على حافة الشيخوخة ينتظرون كارثة كشكل من أشكال الترفيه! يا للعبث!"

لمح حموكشة اللواء عادل صدقي وزوجته يقفان يتحدثان إلى الدكتور فؤاد سليمان وزوجته زينات هانم وابنهما الشاب عصام، الذي كان يحاول الظهور بمظهر المفكر العميق. "كل بتوع المعاشات هنا يا أستاذة،" همس حموكشة لـنور. "ناقص بس بياع ترمس ويكمل المولد."

نور كانت ترصد الوجوه، تحاول قراءة ما خلف الابتسامات القلقة والنظرات الفضولية. رأت الآنسة إنصاف والآنسة اعتدال تتحركان كفريق استطلاع، تلتقطان الهمسات وتوزعان النظرات الخبيرة. رأت الشيخ حسين الإمام وزوجته يجلسان في ركن هادئ يراقبان المشهد بتحفظ.

فجأة، دخلت مريومة الشناوي بثقة لافتة، مرتدية فستاناً أسود أنيقاً يبرز قامتها، وتبعتها خطى العمروسي الهادئة الثابتة، بينما انسل مسعد كالظل واختفى تحت أقرب طاولة مزينة بمفرش دانتيل. ابتسمت مريومة ابتسامة عريضة عندما لمحت نور، واقتربت منها. "نور! مش معقول! أنتِ كمان جاية تتفرجي على 'الحدث الجَلَل'؟ ولا بتدوري على قضية جديدة؟"

ردت نور بهدوء بارد يخفي توترها من وجود منافستها: "فضول مش أكتر يا مريومة. واضح إن الموضوع جذب ناس كتير."

كان تيمور قد لمح مسعد وهو يختفي، شعر بوجود الغريم اللدود، وأرهف حواسه استعداداً لأي تحرك مريب من فريق الظل.

في وسط القاعة، كانت تقف المضيفة، تهاني هانم السكري، بجانب صديقتها الثرثارة درية هانم شاكر. بدت تهاني هانم شاحبة بعض الشيء تحت طبقة خفيفة من المساحيق، تبتسم للضيوف وتتلقى تساؤلاتهم الفضولية بهدوء مصطنع، بينما كانت درية هانم تنتقل بين المجموعات تطلق النكات والتكهنات بصوت عالٍ. لاحظ تيمور عقد اللؤلؤ الكبير الذي تزين به تهاني هانم رقبتها، والذي بدا غير متناسق مع ملابسها وبسيط بشكل لافت للانتباه لثرائها المفترض.

"يا ترى بتعمل إيه الست دي دلوقتي؟" تمتم حموكشة وهو ينظر إلى ساعة الحائط القديمة التي تقترب عقاربها ببطء من الثامنة. "يعني هي اللي عملت الإعلان ولا إيه؟ طب هتعمل إيه؟ هترقص لنا مثلاً؟"

نور أسكتته بنظرة حادة. الأجواء أصبحت مشحونة بالترقب. هدأت الهمسات، وتوجهت كل الأنظار تقريباً نحو ساعة الحائط. دقات الثواني بدت كأنها دقات طبول تعلن عن بداية العرض الغامض...

وفي ركن مظلم تحت البيانو الكبير، تقابلت عيون زرقاء صافية مع عيون صفراء متقدة للحظة خاطفة. نظرة تحدٍ صامتة بين تيمور ومسعد قبل أن يعود كلٌّ إلى مراقبة عالمه الخاص... وعالم البشر المضطرب المحيط بهما.

الفصل الرابع: سقوط الأقنعة... وبداية اللغز

دَقت الساعة العتيقة في بهو الفيلا ثماني دقات رنانة، اخترقت الصمت المشوب بالترقب الذي خيم على الصالون. تَلفت الضيوف، نظر بعضهم لبعض بتساؤل، وارتسمت ابتسامات قلقة على بعض الوجوه.

"قلت لكم مقلب،" همس عصام ابن الدكتور فؤاد بنبرة متعالمة.

لكن كلماته لم تكد تنتهي حتى، وبدون سابق إنذار، انطفأت الثريا الكريستالية والأباجورات الجانبية فجأة، وغرق الصالون في ظلام شبه دامس، لم تخترقه سوى أضواء الشارع الخافتة المتسللة من النوافذ العالية. تعالت شهقات مكتومة وصرخة خافتة.

"إيه ده؟ النور قطع؟" صرخ حموكشة بارتباك.

قبل أن يتمالك أحد أعصابه، انفتح باب الشرفة المطلة على الحديقة الجانبية بعنف، وظهر عند مدخله ظل رجل طويل القامة. شعاع ضوء قوي من مصباح يدوي كبير اخترق الظلام، وجال بسرعة على وجوه الحاضرين المذعورة كأنه يبحث عن هدف معين.

"كله يثبت مكااااانه!" انطلق صوت أجش ومشوَّه، كأن المتحدث يضع شيئاً على فمه.

لم يمهل الظل أحداً فرصة للتفكير. دوت طلقتا رصاص صاخبتان في أرجاء الصالون، لم تبدُا حقيقيتين تماماً، ربما مجرد طلقات صوت؟ لكنهما كانتا كافيتين لإطلاق العنان للذعر. ثم، تلتها مباشرة طلقة ثالثة، صوتها بدا مختلفاً، حاداً ومكتوماً قليلاً، أعقبتها صرخة ألم خافتة جداً كأنها صدرت من تهاني هانم، وصوت ارتطام جسد ثقيل بالأرض قرب الباب الذي ظهر منه المهاجم.

تدحرج المصباح اليدوي على الأرض وانطفأ نوره، ليعم الظلام والقلق والفوضى. صرخات متداخلة، أصوات أقدام متعثرة، همسات مذعورة.

"ولعوا نور! حد معاه ولاعة؟ كشاف موبايل؟" صرخت نور محاولة السيطرة على الموقف بصوتها الحازم.

حاول حموكشة إخراج ولاعته الشهيرة (التي تهديه إياها شركات السجائر مع كل علبة)، لكن يده المرتعشة أسقطتها أرضاً. كان العمروسي أسرع، وبضغطة زر أضاء شاشة هاتفه الحديثة بضوء أبيض قوي، تبعه آخرون باستخدام هواتفهم، لتبدأ معالم الكارثة في الظهور ببطء.

على الأرض قرب باب الشرفة، كان يرقد جثة الشاب سعيد عرفة، مستلقياً على ظهره، بقعة داكنة بدأت تتسع على صدر قميصه الرخيص. بجواره، مسدس صغير، يبدو قديماً أو غير متقن الصنع. على بعد خطوات قليلة، كانت تهاني هانم تتمالك نفسها، تستند على ذراع اللواء صدقي، وتمسح بـ"منديلها" المبلل قليلاً قطرة دم صغيرة تسيل من شحمة أذنها، وجهها شاحب كالموتى.

"ده... ده الشاب اللي كان بيسأل عليكي بره!" تمتمت الآنسة إنصاف بفزع. "قال إنه تبع شركة تأمين..."

اختلطت الأصوات والتساؤلات. "مين ده؟ وليه اتقتل؟ ومين اللي ضرب النار؟ وهل الرصاصة اللي جت في الهانم دي بجد؟"

نور تحركت بسرعة، تحاول منع الفضوليين من الاقتراب من الجثة والمسدس. "محدش يلمس حاجة! حموكشة، اتصل بالنجدة فوراً!"

مريومة كانت تراقب كل شيء بعيون الصقر، وجهها جامد لا يعبر عن شيء، تحلل الموقف وتبحث عن مصلحتها. اختفى العمروسي ومسعد بشكل غير ملحوظ، ربما الأول ليلتقط إشارة شبكة الهاتف الضعيفة خارج الفيلا، والثاني ليتوارى عن الأنظار.

في خضم الفوضى، كان تيمور قد خرج بهدوء من حقيبة نور، وتحرك بحذر في الظلال قرب الجثة. ملاحظاته الأولى كانت حاسمة: موقع الجثة بالنسبة لباب الشرفة المفتوح غير منطقي لو كان هو المقتحم. طريقة سقوط المسدس تبدو مصطنعة. رائحة البارود المختلطة... فيها شيء مريب... كأن رائحة الطلقة القاتلة الحقيقية تختلط برائحة طلقات صوت أو مسحوق ألعاب نارية لإحداث الضجة.

"الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو،" همس تيمور لنفسه. "هذا ليس مجرد اقتحام فاشل... إنه إخراج مسرحي متقن... والجريمة الحقيقية ربما لم تحدث بعد."

وصلت دوريات الشرطة والنيابة، وبدأ التحقيق الرسمي وسط حالة من الهلع والارتباك تسيطر على الضيوف الذين تحول فضولهم إلى خوف حقيقي. تم احتجاز الجميع في الصالون الكبير للإدلاء بأقوالهم. في هذه الأجواء المشحونة، كان على نور وفريقها، وعلى فريق الظل المنافس، أن يبدؤوا سباقهم لكشف الحقيقة... أو استغلالها.